الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيّته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ؟ من هم يا رسول الله ؟ صفهم لنا، ما صفاتهم ؟ ما علاماتهم ؟ ما خصائصهم ؟ مَن هم أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
((الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها))
الناس في ظاهر الدنيا ؛ في الأموال، والأولاد، والبيوت، والبساتين، والدرجات، وأولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون نظروا إلى باطن الدنيا، إلى ساعة الفراق، إلى ساعة الرحيل، إلى يوم..
﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
( سورة الشعراء )
حينما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا، نظر أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون إلى باطنها.
واهتموا بآجل الدنيا حينما اهتم الناس بعاجلها، اهتموا بمرحلة نهاية العمر، اهتموا بساعة الفراق، اهتموا بآجل الدنيا، بينما اهتم الناس بعاجلها، البطولة أن تدرك خريف العمر، والله سبحانه وتعالى راضٍ عنك.
أيها الإخوة المؤمنون... يهتم أصحاب الدنيا بعاجلها، ويهتم أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون بآجلها..
((... فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فما عرض لهم من نائلها عارضٌ إلا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادعٌ إلا وضعوه، وخَلِقَت الدنيا عندهم ـ أي بليت ـ فما يجددونها، وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يحيونها، يبنون آخرتهم ويبغونها، فيشترون بها ما يبقى لهم، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلَّت بهم المَثُلات، لا يرون أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون ))
أيها الإخوة المؤمنون... هذه علامة أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
يا أيها الإخوة المؤمنون... علامةٌ ثانية، هي موضوع الخطبة إنها ( الحياء ) فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إن لكل دينٍ خلقاً، وخُلُق الإسلام الحياء))
( من الموطأ: عن " يزيد بن طلحة " )
فهذا الذي لا يستحي، ولا يخشى، ولا يخاف، ولا يخاف على سمعته، هذا الوقح، هذا المتمرِّد، هذا العاتي، هذا ليس من المسلمين في شيء، خُلُقُ الإسلام الحياء.
((إن لكل دينٍ خلقاً، وخُلُق الإسلام الحياء))
( من الموطأ: عن " يزيد بن طلحة " )
شيءٌ آخر هو ؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يصفه أصحابه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه من وجهه ".
كان عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا في الحياء، كان أسوةً لنا، كان مُعَلِّماً لنا، كان إماماً لنا، كان يستحي، بل كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.
شيءٌ ثالث يا إخوة الإيمان: يقول عليه الصلاة والسلام:
((الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
إذا رفع الحياء رفع الإيمان، إذا كان الإيمان فثمَّ الحياء، الحياء والإيمان مقترنان، يتواجدان معاً ويغيبان معاً، فالحياء من علامة الإيمان، هذا الذي لا يستحي، هذا الذي لا يخشى أن يقول عنه الناس كذا وكذا، هذا الذي لا يحفظ غيبته، هذا الذي لا يعرف قدره، ولا يقف عنده، هذا ليس من أولي الإيمان، لأن النبي العدنان يربط الحياء بالإيمان، فحيثما رفع أحدهما رفع الآخر.
فيا أيها الإخوة المؤمنون... هذا مؤشِّر، إن كنت تستحي فاحمد الله عزَّ وجل على أن الإيمان في قلبك، لأن علامة الإيمان الحياء، وإن كان الرجل لا يستحي فهذه بادرةٌ خطيرة، ومؤشرٌ خطير، عليه أن يسعى ليكون مؤمناً صادقاً، وعندها يكون الحياء دليلاً على إيمانه.
أيها الإخوة المؤمنون... النبي عليه الصلاة والسلام يبيِّن حقيقةً نفسية ؛ إذ أن الإنسان إذا تحلل من خُلُقٍ كريم جرَّه هذا التحلل إلى التحلل من خلقٍ كريمٍ آخر، وهكذا يهوي في دركات الانحطاط حتى يصل إلى الهلاك، هذه الحقيقة هو أن الإنسان لا يبقى على حالةٍ واحدة ؛ إما أن يرقى في درجات المقرَّبين، وإما أن يهوي في دركات الهالكين، أما أن يبقى طوال حياته في مرتبةٍ واحدة، فليس هذا من طبيعة النفس في شيء، هذه الحقيقة النفسية وصفها النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
(( إن الله عزَّ وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
لا يستحي، يأخذ ما ليس له ولا يستحي، يعتدي على أعراض الناس ولا يستحي، يخون أخاه ولا يستحي، يتمرْكَز حول ذاته ولا يستحي، يستعلي ولا يستحي، يعتدي ولا يستحي..
(( إن الله عزَّ وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً مُمْقِتا))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
يكره الناس ويكرهونه، يبغضهم ويبغضونه، يتجافى عنهم ويتجافون عنه، إذا نزع الحياء..
((... لم تلقه إلا مقيتاً ممقتا ))
.. أي بغيضاً مبغضاً.
فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة، علام يكون أميناً ؟ إنه لا يستحي، ولا يخشى، لا يخشى ربه، ولا يخشى سمعته، ولا يخشى الناس..
(( إذا نزع الحياء منه صار مقيتاً ممقتا، فإذا صار مقيتاً ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مَخونا ))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
يخون الناس ويخوِّن الناس، يتِّهم الناس بما في نفسه، يسيء إلى الناس ويسوؤه الناس.
((فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائناً مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما مُلْعنا ))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
القلب القاسي بعيدٌ من الله عزَّ وجل..
﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
( سورة الزمر: من آية " 22 " )
((فإذا لم تلقه إلا رجيماً ملعنا نزعت منه رِبْقة الإسلام))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
أي أنه خرج من الدين، خرج من الإسلام، استدرجه الشيطان، بدأ بعدم الاستحياء وانتهى بالخروج من الدين، من هنا قال عليه أتم الصلاة والتسليم:
(( الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
أيها الإخوة المؤمنون... يا أحباب رسول الله، أحياناً للحياء مواضع يستحبُّ فيها، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهِّر فمه من الفحش، وأن ينزِّه لسانه من العَيْب، وأن يخجل من ذكر العورات، فإنه من سوء الأدب أن تثلث الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئٍ بمواقعها وآثارها.
قال عليه الصلاة والسلام هذا الذي يسمي العورات بأسمائها، هذا الذي يمزح مزاحاً رخيصاً، هذا الذي يمزح مزاحاً يحمِّر الوجوه، هذا الذي يتكلم الكلام البذيء، هذا الذي يلقي الطُرَفَ المحرجة هذا لا يستحي، ومادام لا يستحي فليس من المؤمنين في شيء، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من النفاق، والنفاق في النار ))
الكلام البذيء، المزاح البذيء، التعليق البذيء، الطُرَف البذيئة على لسانه، كلها تدور على ذكر العورات، وعلى ذكر الموبقات، وعلى ذكر الفواحش، وعلى رواية القصص التافهة، وعلى إثارة المشاعر الرخيصة، هذا ليس مؤمناً ورب الكعبة.
أيها الإخوة المؤمنون... شيءٌ آخر في الحياء: المؤمن يخشى على سمعته من أن تُلَطَّخ، يخشى على اسمه من أن يُدَنَّس، يخشى على مكانته من أن تجرح، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوَّته، وحرمت غيبته))
وقال عليه الصلاة والسلام:
(( من عمل عملاً في السر يستحيي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر ))
( من شرح الجامع الصغير )
نفسه لا قيمة لها، حينما يعمل عملاً بالسر يستحي منه في العلانية فهذا لا قدر لنفسه عنده، إنه يحتقر نفسه، إنه منهارٌ أمام نفسه.
" من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله ".
أيها الإخوة المؤمنون... جاء في الأثر أن: " ما أحببت أن تسمعه بأذنيك فأته، وما كرهت أن تسمعه أذناك فاجتنبه ".
هل تحب الصدق ؟ كن صادقاً، هل تكره الخيانة ؟ إياك والخيانة، الشيء الذي تحبه، تحب أن تسمعه افعله، والشيء الذي تكره أن تسمعه فلا تفعله.
أيها الإخوة الأكارم... " ما كان الفُحش في شيءٍ إلا شانه، وما كان الحياء في شيءٍ إلا زانه ".. " ولو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً، ولو كان الفحش رجلاً لكان رجلاً سيئاً ".
أيها الإخوة الأكارم... حديثٌ خطير، حديثٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول هذا النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم:
((استحيوا من الله حق الحياء))
ـ قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي من الله، والحمد لله.
ـ قال:
((ليس ذلك الاستحياء من الله حق الحياء))
ـ فقالوا: وما حق الحياء ؟.
ـ قال عليه الصلاة والسلام:
(( أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))
( من الجامع الصغير: عن " ابن مسعود " )
هل تستحي من الله في عينيك ؟ هل تنظر بهما إلى عورات المسلمين ؟ هل تنظر إلى بيتٍ فتح بابه ؟ هل تنظر إلى نافذة جارك لعلك ترى منها شيئاً يعجبك ؟ هل تستحي بعينيك ؟ وهل تستحي بأذنيك ؟ وهل تستحي في مشيك ؟ وهل تستحي بيديك ؟.
أيها الإخوة المؤمنون... " أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، فإذا فعلت ذلك فقد استحيت من الله حق الحياء ".
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
وقد جاء في الأثر أن: " استحيي من الله كما تستحيي من أولي الهيبة من قومك ".
وجاء في الحديث القدسي ـ دققوا أيها الإخوة:
(( إن الله حييٌ كريم ـ إن الله جلَّ في علاه حيي كريم ـ يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه ثم يردهما صفراً خائبتين، فاتقوا الله عباد الله فيما تدعون))
( من سنن الترمذي: عن " سلمان الفارسي " )
إن دعوته ولم يجبك فإنه يستحي منك، فاتقِ الله فيما تدعو، سل من خير الدنيا والآخرة، اطلب من الله الهدى، اطلب من الله السداد، والرشاد.
أيها الإخوة المؤمنون... جاء في بعض الأقوال المأثورة أن: "الحياء خيرٌ كله ".
وقال عليه الصلاة والسلام:
(( إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء ))
( من الأذكار النووية: عن " أبي مسعود البدري " )
سفَّانة بنت حاتم الطائي، وقعت أسيرةً في يدي بعض سرايا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما تفقَّد عليه الصلاة والسلام الأسرى وقفت وكانت أديبةً قالت:
" يا محمد، يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي الأعداء، ولا تشمت بي أحياء العرب فافعل، فإن أبي كان سيد قومه ؛ يفك العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرِّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكَل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحدٌ من حاجةٍ فرده خائباً، يا رسول الله أنا بنت حاتم طي ".
فقال عليه الصلاة والسلام:
((يا جارية هذه صفات المؤمن حقاً، لو كان أبوك إسلامياً لترحَّمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ))
( من تخريج أحاديث الإحياء )
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
(( ارحموا عزيز قومٍ ذل، وغنيٍ افتقر، وعالمٍ ضاع بين الجهال))
وامتن عليها، وأطلق سراحها، وأطلق مَن كان معها إكراماً لها، فاستأذنته بالدعاء، فأذن لها، وقال لأصحابه:
((اسمعوا وعوا))
قالت سَفَّانة: " أصاب الله ببرك مواقعه.. ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة.. ولا سَلَب نعمةً عن كريم قومٍ إلا جعلك سبباً في ردها عليهم ".
فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي بن حاتم بدومة الجندل فقالت له:
" يا أخي ائتي هذا الرجل إنه يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن مالكاً فلن تزال في عزِّ ملكه ".
وقد جاءه عدي بن حاتم وله قصةٌ طويلةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
هكذا كانت أخلاق النبي. الإسلام مبادئ، والإسلام قيماً أخلاقية قبل أن تكون عباداتٍ تؤدَّى..
(( بني الإسلام على خمس... ))
هذه الخمس دعائم وليست هي الإسلام، الإسلام أن تحب الفقير، وأن تفك الأسير، وأن ترحم الصغير، وأن تعرف قدر الكبير، وأن تكون جواداً وكريماً.
أيها الإخوة المؤمنون... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطّانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
والحمد لله رب العالمين
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون... في خَلق الإنسان، وخَلق الحيوان، آياتٌ، قد لا يصدِّقها العقل، أودع ربنا سبحانه وتعالى في بعض الحيوانات، ومنها الكلاب، حاسةً تفوق قدرتها حاسة الإنسان بمليون ضعف، أي أن هذا الحيوان، الذي سخَّره الله لنا، أودع فيه حاسةً الشم، بدرجة تفوق حاسة الإنسان بمليون ضعف.
فيا أيها الإخوة المؤمنون... يمكن أن تضع، بضع غرامات من مادةٍ مخدِّرة، في علبةٍ محكمة الإغلاق، وهذه المادة، في ورقٍ كتيم، والعلبة محكمة، والعلبة ضمن علبة، والعلبتان ضمن صندوق، وأن تأتي بمئة صندوقٍ متشابهة، وأن ترسل كلباً، أعطاه الله هذه القدرة، فإذا هو يهتدي إلى هذه المادة، من بين مئة صندوقٍ، وتسأل: كيف تنفذ الرائحة، وكيف تصل إلى أنف هذا الحيوان ؟!! شيءٌ لا يصدَّق.
أثبت العلم الحديث، أن لكل إنسانٍ على وجه الأرض، رائحةً خاصَّة، ولا يتشابه اثنان في رائحة، بل إن لكل من التوأمين، الذين ولدا من بويضةٍ واحدة، لكلٍ منهما رائحةً خاصة، فيكفي أن تقرِّب إلى أنف هذا الحيوان، شيئاً من رائحة عَرَق هذا الإنسان، وأن يكون هذا الإنسان بين مئات الألوف من البشر، حتى يهتدي هذا الحيوان إليه، شيء لا يصدق.
أيها الإخوة الأكارم... تحتل خلايا الشم في الإنسان مساحة لا تزيد عن خمس سنتيمترات مربعة، بينما تحتل خلايا الشم في هذا الحيوان، مساحةٌ تزيد عن مئةٍ وخمسين سنتيمتر مربع، هناك ما يزيد عن خمسة ملايين خلية لتحسس الروائح، بينما في هذا الحيوان ما يزيد عن مئةٍ وخمسين مليون خلية، تتحسس هذه الروائح.
أيها الإخوة المؤمنون... تفوق حاسة الشم لدى هذا الحيوان، حاسَّة الإنسان بمليون مرة، لذلك مهما احتال مهربو المخدرات، ومهما خبَّؤوها في حرزٍ حريز، تستطيع هذه الحيوانات التي سخرَّها الله لنا، أن تكتشف هذه المادة، التي تقضي على سعادة الأُسر، ما هذا الحيوان ؟ مليون ضعف.
يرى الصقر بعينيه بدرجةٍ، تفوق رؤية الإنسان بثمانية أضعاف، ويستطيع الحيوان المدرَّب على تتبع الروائح، أن يشمَّ رائحة إنسانٍ، من بين مئة ألف إنسان، بشرط أن يعطى بادئً ذي بدء، شيئاً ذا دلالة طفيفةً من رائحته.
أيها الإخوة المؤمنون... مَن يصدِّق أنَّ ذاكرة هذا الحيوان، يمكن أن تستوعب ملايين الروائح، ذاكرة تستوعب ملايين الروائح، فإذا دُرِّب على كشف روائح معينة، فأية رائحةٍ مدرجةٍ في ذاكرته يكتشفها.
شيءٌ آخر: إنك إذا وضعت ملعقةً من الشاي، ملعقة ملحٍ، في خمسين لتراً من الماء في وعاء، ووعاءٌ آخر، فيه خمسون لتر من الماء العذب، إن هذا الحيوان عن طريق الشم فقط، يعرف الماء المالح من الماء العذب، ملعقةٌ واحدة، ملعقة شاي، املأها ملحاً، وضعها في خمسين لتر، وضع هذا الماء في الوعاء، وفي وعاءٍ آخر خمسون لتراً من الماء العذب، يعرف هذا الحيوان عن طريق الشم الماء المالح من الماء العذب.
شيءٌ آخر: لو وضعت ملعقة خلٍ في خمسة آلاف لترٍ، أي خمسة طن، وفي خمسة آلاف لتر ماء عذب، يهتدي هذا الحيوان، إلى الماء الذي فيه ملعقة الخل، ما هذه الحاسة ؟.
تستخدم بعض الدول هذا الحيوان، لكشف تسرُّب الغاز في الأنابيب التي دفنت تحت الأرض، إنه يتَّبع هذا الأنبوب، ففي أي مكانٍ َّالغاز منه إنه يعوي، ويصيح ليشير إلى مكان تسرُّب الغاز.
سخر الله سبحانه وتعالى لنا هذا، فماذا فعلنا ؟ هل شكرناه على هذا الكون العظيم ؟ هل شكرناه على هذه المخلوقات التي سُخِّرت من أجلنا؟
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾
( سورة البقرة: من آية " 29 " )
الدعاء
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقبل توبتنا، وفكَّ أسرنا، وأحسن خلاصنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا مولانا رب العالمين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بفعل المُسيئين يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين